الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} هذا الشوط الثالث يستعرض أمة الرسل. لا على وجه الحصر. يشير إلى بعضهم مجرد إشارة؛ ويفصل ذكر بعضهم تفصيلاً مطولاً ومختصراً. وتتجلى في هذه الإشارات والحلقات رحمة الله وعنايته برسله، وعواقب المكذبين بالرسل بعد أن جاءتهم البينات. كما تتجلى بعض الاختبارات للرسل بالخير وبالضر، وكيف اجتازوا الابتلاء. كذلك تتجلى سنة الله في إرسال الرسل من البشر. ووحدة العقيدة والطريق، لجماعة الرسل على مدار الزمان؛ حتى لكأنهم أمة واحدة على تباعد الزمان والمكان. وتلك إحدى دلائل وحدانية الألوهية المبدعة، ووحدانية الإرادة المدبرة، ووحدانية الناموس الذي يربط سنن الله في الكون، ويؤلف بينها، ويوجهها جميعاً وجهة واحدة، إلى معبود واحد: {وأنا ربكم فاعبدون} {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب، وهم من الساعة مشفقون. وهذا ذكر مبارك أنزلناه، أفأنتم له منكرون؟}. ولقد سبق في سياق السورة أن المشركين كانوا يستهزئون بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنه بشر. وأنهم كانوا يكذبون بالوحي، ويقولون: إنه سحر أو شعر أو افتراء. فها هو ذا يكشف لهم أن إرسال الرسل من البشر هي السنة المطردة، وهذه نماذج لها من قبل. وأن نزول الكتب على الرسل ليس بدعة مستغرقة فهاهما ذان موسى وهارون آتاهما الله كتاباً. ويسمى هذا الكتاب {الفرقان} وهي صفة القرآن. فهناك وحدة حتى في الاسم. ذلك أن الكتب المنزلة كلها فرقان بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين منهج في الحياة ومنهج، واتجاه في الحياة واتجاه. فهي في عمومها فرقان. وفي هذه الصفة تلتقي التوراة والقرآن. وجعل التوراة كذلك، {ضياء} يكشف ظلمات القلب والعقيدة، وظلمات الضلال والباطل. وهي ظلمات يتوه فيها العقل ويضل فيها الضمير. وإن القلب البشري ليظل مظلماً حتى تشرق فيه شعلة الإيمان، فتنير جوانبه، ويتكشف له منهجه، ويستقيم له اتجاهه، ولا تختلط عليه القيم والمعاني والتقديرات. وجعل التوراة كالقرآن {ذكراً للمتقين} تذكرهم بالله، وتبقي لهم ذكراً في الناس. وماذا كان بنو إسرائيل قبل التوراة؟ كانوا أذلاء تحت سياط فرعون، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويستذلهم بالسخرة والإيذاء. ويخص المتقين {الذين يخشون ربهم بالغيب} لأن الذين تستشعر قلوبهم خشية الله ولم يروه، {وهم من الساعة مشفقون} فيعملون لها ويستعدون هؤلاء هم الذين ينتفعون بالضياء، ويسيرون على هداه، فيكون كتاب الله لهم ذكراً، يذكرهم بالله، ويرفع لهم ذكراً في الناس. ذلك شأن موسى وهارون.. {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} فليس بدعاً ولا عجباً، إنما هو أمر مسبوق وسنة معروفة {أفأنتم له منكرون؟} فماذا تنكرون منه، وقد سبقت به الرسالات؟ وبعد الإشارة السريعة إلى موسى وهارون وكتابهما يرتد السياق إلى حلقة كاملة من قصة إبراهيم، وهو جد العرب الأكبر وباني الكعبة التي يحشدون فيها الأصنام، ويعكفون عليها بالعبادة، وهو الذي حطم الأصنام من قبل. والسياق يعرضه هنا وهو يستنكر الشرك ويحطم الأصنام. والحلقة المعروفة هنا هي حلقة الرسالة. وهي مقسمة إلى مشاهد متتابعة، بينها فجوات صغيرة. وهي تبدأ بالإشارة إلى سبق هداية إبراهيم إلى الرشد. ويعني به الهداية إلى التوحيد. فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة «الرشد» في هذا المقام. {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل، وكنا به عالمين}.. آتينا رشده، وكنا عالمين بحاله وباستعداده لحمل الأمانة التي يحملها المرسلون. {إذ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون}.. فكانت قولته هذه دليل رشده.. سمى تلك الأحجار والخشب باسمها: {هذه التماثيل} ولم يقل: إنها آلهة، واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة. وكلمة {عاكفون} تفيد الانكباب الدائم المستمر. وهم لا يقضون وقتهم كله في عبادتها. ولكنهم يتعلقون بها. فهو عكوف معنوي لا زمني. وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبداً على هذه التماثيل! فكان جوابهم وحجتهم أن {قالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين} ! وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة، في مقابل حرية الإيمان، وانطلاقه للنظر والتدبر، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لا التقليدية. فالإيمان بالله طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية، والوراثات المتحجرة التي لا تقوم على دليل: {قال: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين}.. وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها، ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها. فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم، إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق. وعندما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير، وبهذه الصراحة في الحكم، راحوا يسألون: {قالوا: أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟}.. وهو سؤال المزعزع العقيدة، الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه، لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه. ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد. فهو لا يدري اي الأقوال حق. والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل! وهذا هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير. فأما إبراهيم فهو مستيقن واثق عارف بربه، متمثل له في خاطره وفكره، يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه: {قال: بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن، وأنا على ذلكم من الشاهدين}. فهو رب واحد. رب الناس ورب السماوات والأرض. ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق. فهما صفتان لا تنفكان: {بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن}. . فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق، وأن الخالق هو الله. ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً وهم يعلمون! إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه: {وأنا على ذلكم من الشاهدين}.. وإبراهيم عليه السلام لم يشهد خلق السماوات والأرض، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه.. ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين.. إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر. وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبر، وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه. ثم يعلن إبراهيم لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار. أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمراً لا رجعة فيه: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين}.. ويترك ما اعتزمه من الكيد للأصنام مبهماً لا يفصح عنه.. ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه. ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيدا. فتركوه! {فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون}.. وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة.. إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم {لعلهم إليه يرجعون} فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة! لعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت. وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذاً إلا ذلك الكبير! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئاً. وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟ لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال، لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر. فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينتقموا على من حطم آلهتهم، وصنع بها هذا الصنيع: {قالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين}.. عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة هذه التماثيل، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها! {قالوا: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبرهيم}.. ويبدو من هذا أن إبراهيم عليه السلام كان شاباً صغير السن، حينما آتاه الله رشده، فاستنكر عبادة الأصنام وحطمها هذا التحطيم. ولكن أكان قد أوحي إليه بالرسالة في ذلك الحين؟ أم هو إلهام هداه إلى الحق قبل الرسالة. فدعا إليه أباه، واستنكر على قومه ما هم فيه؟. هذا هو الأرجح... وهناك احتمال أن يكون قولهم: {سمعنا فتى} يقصد به إلى تصغير شأنه بدليل تجهيلهم لأمره في قولهم: {يقال له إبراهيم!} للتقليل من أهميته، وإفادة أنه مجهول لا خطر له؟ قد يكون. ولكننا نرجح انه كان فتى حديث السن في ذلك الحين. {قالوا: فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون}.. وقد قصدوا إلى التشهير به، وإعلان فعلته على رؤوس الأشهاد! {قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟}.. فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة وهي جذاذ مهشمة. فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم، وهو فرد وحده وهم كثير. ذلك أنه ينظر بعقلة المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون: {قال: بل فعله كبيرهم هذا. فاسألوهم إن كانوا ينطقون}.. والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم عليه السلام والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكاً. فهي جماد لا إدراك له أصلاً. وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها ام إن هذا التمثال هو الذي حطمها! {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} ! ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزاً، وردهم إلى شيء من التدبر والتفكر: {فرجعوا إلى أنفسهم، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون}.. وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون. ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود: {ثم نكسوا على رؤوسهم. لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} ! وحقاً لقد كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب.. كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر. أما الثانية فكانت انقلاباً على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم. وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟! ومن ثم يجبههم بعنف على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم: {قال: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم؟ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون؟!} وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر، وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف. عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائماً حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل، فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ: {قالوا: حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين}. فيا لها من آلهة ينصرها عبادها، وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً؛ ولا تحاول لها ولا لعبادها نصراً! {قالوا: حرِّقوه} ولكن كلمة أخرى قد قيلت.. فأبطلت كل قول، وأحبطت كل كيد. ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد: {قلنا: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}.. فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم.. كيف؟ ولماذا نسأل عن هذه وحدها. و{كوني} هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان، وتنشأ بها عوالم، وتخلق بها نواميس: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون}. فلا نسأل: كيف لم تحرق النار إبراهيم، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية؟ فالذي قال للنار: كوني حارقة. هو الذي قال لها: كوني برداً وسلاماً. وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول. مألوفاً للبشر أو غير مألوف. إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون: كيف كان هذا؟ وكيف أمكن أن يكون؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلاً، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلاً. علمياً أو غير علمي. فالمسألة ليست في هذا الميدان اصلاً. ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر. وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه، لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود. إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان، لأن صانعه يملك أن يكون. أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار.. فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود. وليس لنا سوى النص القرآني من دليل. وما كان تحويل النار برداً وسلاماً على إبراهيم إلا مثلاً تقع نظائره في صور شتى. ولكنها قد لا تهز المشاعر كما يهزها هذا المثل السافر الجاهر. فكم من ضيقات وكربات تحيط بالأشخاص والجماعات من شأنها أن تكون القاصمة القاضية، وإن هي إلا لفتة صغيرة، فإذا هي تحيي ولا تميت، وتنعش ولا تخمد، وتعود بالخير وهي الشر المستطير. إن {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} لتتكرر في حياة الأشخاص والجماعات والأمم؛ وفي حياة الأفكار والعقائد والدعوات. وإن هي إلا رمز للكلمة التي تبطل كل قول، وتحبط كل كيد، لأنها الكلمة العليا التي لا ترد! {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين}.. وقد روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب «بالنمرود» وهو ملك الآراميين بالعراق. وأنه قد أهلك هو والملأ من قومه بعذاب من عند الله. تختلف الروايات في تفصيلاته، وليس لنا عليها من دليل. المهم أن الله قد أنجى إبراهيم من الكيد الذي أريد به، وباء الكائدون له بخسارة ما بعدها خسارة {فجعلناهم الأخسرين} هكذا على وجه الإطلاق دن تحديد! {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}.. وهي أرض الشام التي هاجر إليها هو وابن أخيه لوط. فكانت مهبط الوحي فترة طويلة، ومبعث الرسل من نسل إبراهيم. وفيها الأرض المقدسة. وثاني الحرمين. وفيها بركة الخصب والرزق، إلى جانب بركة الوحي والنبوة جيلاً بعد جيل. {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة، وكلاً جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين}.. لقد ترك إبراهيم عليه السلام وطناً وأهلاً وقوماً. فعوضه الله الأرض المباركة وطنا ًخيراً من وطنه. وعوضه ابنه إسحاق وحفيده يعقوب أهلاً خيراً من أهله. وعوض من ذريته أمة عظيمة العدد قوماً خيراً من قومه. وجعل من نسله أئمة يهدون الناس بأمر الله؛ وأوحى إليهم أن يفعلوا الخيرات على اختلافها، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. وكانوا طائعين لله عابدين.. فنعم العوض، ونعم الجزاء، ونعمت الخاتمة التي قسمها الله لإبراهيم. لقد ابتلاه بالضراء فصبر، فكانت الخاتمة الكريمة اللائقة بصبره الجميل. {ولوطا آتيناه حكماً وعلماً؛ ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث، إنهم كانوا قوم سوء فاسقين. وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين}.. وقصة لوط قد سبقت مفصلة. وهو يشير إليها هنا مجرد إشارة. وقد صحب عمه إبراهيم من العراق إلى الشام، وأقام في قرية سدوم. وكانت تعمل الخبائث. وهي إتيان الفاحشة مع الذكور جهرة وبلا حياء أو تحرج. فأهلك الله القرية وأهلها: {إنهم كانوا قوم سوء فاسقين}. وأنجى لوطاً وأهله إلا امرأته. {وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين}.. وكأنما الرحمة مأوى وملاذ يدخل الله فيه من يشاء، فإذا هو آمن ناعم مرحوم. ويشير إلى نوح إشارة سريعة كذلك: {ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له، فنجيناه وأهله من الكرب العظيم. ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين}.. وهي إشارة كذلك لا تفصيل فيها. لإثبات استجابة الله لنوح عليه السلام حين ناداه {من قبل} وهو سابق لإبراهيم ولوط. ولقد أنجاه الله وأهله كذلك. إلا امرأته، وأهلك قومه بالطوفان وهو {الكرب العظيم} الذي وصفه بالتفصيل في سورة هود. ثم يفصل بعض الشيء في حلقة من قصة داود وسليمان: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم؛ وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان. وكلا آتينا حكماً وعلماً. وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير. وكنا فاعلين. وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون؟}. {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها، وكنا بكل شيء عالمين. ومن الشياطين من يغوصون له، ويعملون عملاً دون ذلك، وكنا لهم حافظين}.. وقصة الحرث التي حكم فيها داود وسليمان يقول الرواة في تفصيلها: إن رجلين دخلا على داود، أحدهما صاحب حرث أي حقل وقيل حديقة كرم والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا قد نفشت في حرثي أي انطلقت فيه ليلاً فلم تبق منه شيئاً. فحكم داود لصاحب الحرث أن يأخذ غنم خصمه في مقابل حرثة.. ومر صاحب الغنم بسليمان؛ فأخبره بقضاء داود. فدخل سليمان على أبيه فقال: يا نبي الله إن القضاء غير ما قضيت. فقال: كيف؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بها، وادفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان. ثم يعيد كل منهما إلى صاحبه ما تحت يده. فيأخذ صاحب الحرث حرثه، وصاحب الغنم غنمه.. فقال داود: القضاء ما قضيت. وأُمضي حكم سليمان. وكان حكم داود وحكم سليمان في القضية اجتهاداً منهما. وكان الله حاضراً حكمهما، فألهم سليمان حكماً أحكم، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب. لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث. وهذا عدل فحسب. ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير، وجعل العدل دافعاً إلى البناء والتعمير. وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة. وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء. ولقد أوتي داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً}.. وليس في قضاء داود من خطأ، ولكن قضاء سليمان كان أصوب، لأنه من نبع الإلهام. ثم يعرض السياق ما اختص به كلا منهما. فيبدأ بالوالد: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير. وكنا فاعلين. وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون؟}. وقد عرف داود عليه السلام بمزاميره. وهي تسابيح لله كان يرتلها بصوته الحنون، فتتجاوب أصداؤها حوله، وترجع معه الجبال والطير.. وحينما يتصل قلب عبد بربه فإنه يحس الاتصال بالوجود كله؛ وينبض قلب الوجود معه؛ وتنزاح العوائق والحواجز الناشئة عن الشعور بالفوارق التي تميز الأنواع والأجناس، وتقيم بينها الحدود والحواجز، وعندئذ تتلاقى ضمائرها وحقائقها في ضمير الكون وحقيقته. وفي لحظات الإشراق تحس الروح باندماجها في الكل، واحتوائها على الكل.. عندئذ لا تحس بأن هنالك ما هو خارج عن ذاتها؛ ولا بأنها هي متميزة عما حولها. فكل ما حولها مندمج فيها وهي مندمجة فيه. ومن النص القرآني نتصور داود وهو يرتل مزاميره، فيسهو عن نفسه المنفصلة المتميزة المتحيزة. وتهيم روحه في ظلال الله في الكون ومجاليه ومخلوقاته الجوامد منها والأحياء. فيحس ترجيعها، ويتجاوب معها كما تتجاوب معه. وإذا الكون كله فرقة مرتلة عازفة مسبحة بجلال الله وحمده. {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} إنما يفقهه من يتجرد من الحواجز والفواصل، وينطلق مع أرواح الكائنات، المتجهة كلها إلى الله. {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير}.. {وكنا فاعلين} فما هنالك من شيء يعز على القدرة أو يتأبى حين تريد. يستوي أن يكون مألوفاً للناس أو غير مالوف. {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون؟}.. تلك هي صنعة الدروع حلقاً متداخلة، بعد أن كانت تصنع صفيحة واحدة جامدة. والزرد المتداخل أيسر استعمالاً وأكثر مرونة، ويبدو أن داود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم الله. والله يمن على الناس أن علم داود هذه الصناعة لوقايتهم في الحرب: {لتحصنكم من بأسكم} وهو يسألهم سؤال توجيه وتحضيض: {فهل أنتم شاكرون؟}.. والحضارة البشرية سارت في طريقها خطوة خطوة وراء الكشوف. ولم تجئ طفرة، لأن خلافة الأرض تركت لهذا الإنسان، ولمداركه التي زوده الله بها ليخطو في كل يوم خطوة؛ ويعيد تنسيق حياته وفق هذه الخطوة. وإعادة تنسيق الحياة وفق نظام جديد ليست سهلة على النفس البشرية؛ فهي تهز أعماقها؛ وتغير عاداتها ومألوفاً؛ وتقتضي فترة من الزمان لإعادة الاستقرار الذي تطمئن فيه إلى العمل والإنتاج. ومن ثم شاءت حكمة الله أن تكون هناك فترة استقرار تطول أو تقصر. بعد كل تنسيق جديد. والقلق الذي يستولي على أعصاب العالم اليوم منشؤه الأول سرعة توالي الهزات العلمية والاجتماعية التي لا تدع للبشرية فترة استقرار، ولا تدع للنفس فرصة التكيف والتذوق للوضع الجديد. ذلك شأن داود. فأما شأن سليمان فهو أعظم: {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها؛ وكنا بكل شيء عالمين. ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك. وكنا لهم حافظين}.. وتدور حول سليمان روايات وتصورات وأقاويل، معظمها مستمد من الإسرائيليات والتخيلات والأوهام. ولكن لا نضل في هذا التيه. فإننا نقف عند حدود النصوص القرآنية وليس وراءها أثر مستيقن في قصة سليمان بالذات. والنص القرآني هنا يقرر تسخير الريح وهي عاصفة لسليمان، تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها. وهي في الغالب الشام لسبق الإشارة إليها بهذه الصفة في قصة إبراهيم.. فكيف كان هذا التسخير؟ هنالك قصة بساط الريح الذي قيل: إن سليمان كان يجلس عليه وهو وحاشيته فيطير بهم إلى الشام في فترة وجيزة. وهي مسافة كانت تقطع في شهر على الجمال. ثم يعود كذلك.. وتستند هذه الرواية إلى ما ورد في سورة «سبأ» من قوله: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر} ولكن القرآن لم يذكر شيئاً عن بساط الريح ذاك؛ ولم يرد ذكره كذلك في أي أثر مستيقن. فليس لنا ما نستند عليه لنقرر مسألة البساط. والأسلم إذن أن نفسر تسخير الريح بتوجيهها بأمر الله إلى الأرض المباركة في دورة تستغرق شهراً طرداً وعكساً.. كيف؟ لقد قلنا: إن القدرة الإلهية الطليقة لا تسأل كيف؟ فخلق النواميس وتوجيهها هو من اختصاص تلك القدرة الطليقة. والمعلوم للبشر من نواميس الوجود قليل. ولا يمتنع أن تكون هناك نواميس أخرى خفية على البشر تعمل، وتظهر آثارها عندما يؤذن لها بالظهور: {وكنا بكل شيء عالمين}.. العلم المطلق لا كعلم البشر المحدود. وكذلك تسخير الجن لسليمان عليه السلام ليغوصوا في أعماق البحر أو أعماق اليابسة. ويستخرجوا كنوزها المخبوءة لسليمان؛ أو ليعملوا له أعمالاً غير هذا وذاك.. فالجن كل ما خفي. وقد قررت النصوص القرآنية أن هناك خلقاً يسمون الجن خافين علينا، فمن هؤلاء سخر الله لسليمان من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك. وحفظهم فلا يهربون ولا يفسدون ولا يخرجون على طاعة عبده. وهو القاهر فوق عباده يسخرهم حين يشاء كيف يشاء. وعند هذا الحد المأمون نقف في ظلال النصوص. فلا نسبح في الإسرائيليات. لقد ابتلى الله داود وسليمان عليهما السلام بالسراء. وفتنتهما في هذه النعمة. فتن داود في القضاء. وفتن سليمان بالخيل الصافنات كما سيأتي في سورة ص فلا نتعرض هنا لتفصيلات الفتنة حتى يأتي ذكرها في موضعها. إنما نخلص إلى نتائجها.. لقد صبر داود، وصبر سليمان للابتلاء بالنعمة بعد الاستغفار من الفتنة واجتازا الامتحان في النهاية بسلام؛ فكانا شاكرين لنعمة الله. والآن نجيء إلى الابتلاء بالضراء في قصة أيوب عليه السلام: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم، رحمة من عندنا وذكرى للعابدين}.. وقصة ابتلاء أيوب من أروع قصص الابتلاء. والنصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل. وهي في هذا الموضع تعرض دعاء أيوب واستجابة الله للدعاء. لأن السياق سياق رحمة الله بأنبيائه، ورعايته لهم في الابتلاء. سواء كان الابتلاء بتكذيب قومهم لهم وإيذائهم، كما في قصص إبراهيم ولوط ونوح. أو بالنعمة في قصة داود وسليمان. أو بالضر كما في حال أيوب.. وأيوب هنا في دعائه لا يزيد على وصف حاله: {أني مسني الضر}.. ووصف ربه بصفته: {وأنت أرحم الراحمين}. ثم لا يدعو بتغيير حاله، صبراً على بلائه، ولا يقترح شيئاً على ربه، تأدباً معه وتوقيراً. فهو نموذج للعبد الصابر لا يضيق صدره بالبلاء، ولا يتململ من الضر الذي تضرب به الأمثال في جميع الأعصار. بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله إليه، اطمئناناً إلى علمه بالحال وغناه عن السؤال. وفي اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة، وكانت الرحمة، وكانت نهاية الابتلاء: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم}.. رفع عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح. ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم، ورزقه مثلهم. وقيل هم أبناؤه فوهب الله له مثليهم. أو أنه وهب له أبناء وأحفاداً. {رحمة من عندنا} فكل نعمة فهي رحمة من عند الله ومنة. {وذكرى للعابدين}. تذكرهم بالله وبلائه، ورحمته في البلاء وبعد البلاء. وإن في بلاء أيوب لمثلاً للبشرية كلها؛ وإن في صبر أيوب لعبرة للبشرية كلها. وإنه لأفق للصبر والأدب وحسن العاقبة تتطلع إليه الأبصار. والإشارة {للعابدين} بمناسبة البلاء إشارة لها مغزاها. فالعابدون معرضون للابتلاء والبلاء. وتلك تكاليف العبادة وتكاليف العقيدة وتكاليف الإيمان. والأمر جد لا لعب. والعقيدة أمانة لا تسلم إلا للأمناء القادرين عليها، المستعدين لتكاليفها وليست كلمة تقولها الشفاه، ولا دعوى يدعيها من يشاء. ولا بد من الصبر ليجتاز العابدون البلاء.. بعد ذلك يشير السياق مجرد إشارة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل. كل من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}.. فهو عنصر الصبر كذلك يشير إليه في قصص هؤلاء الرسل. فأما إسماعيل فقد صبر على ابتلاء ربه له بالذبح فاستسلم لله وقال: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شآء الله من الصابرين} وأما إدريس فقد سبق إن زمانه مجهول وكذلك مكانه، وإن هنالك قولاً بأنه، أوزوريس الذي عبده المصريون بعد موته، وصاغوا حوله الأساطير. بوصف المعلم الأول للبشر، الذي علمهم الزراعة والصناعة! ولكننا لا نملك على هذا دليلاً. فلنعلم أنه كان من الصابرين على نحو من أنحاء الصبر يستحق التسجيل في كتاب الله الباقي. وأما ذو الكفل فهو كذلك مجهول لا نملك تحديد زمانه ولا مكانه. والأرجح أنه من أنبياء بني إسرائيل. وقيل: إنه من صالحيهم، وأنه تكفل لأحد أنبيائهم قبل موت هذا النبي، بأن يخلفه في بني إسرائيل على أن يتكفل بثلاث: أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب في القضاء. فوقى بما تكفل به وسمي ذا الكفل لذاك ولكن هذه ليست سوى أقوال لا دليل عليها. والنص القرآني يكفي في هذا الموضع لتسجيل صفة الصبر لذي الكفل. {وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}.. وهذا هو المقصود بذكرهم في هذا لسياق. ثم تجيء قصة يونس- عليه السلام وهو ذو النون. {وذا النون إذ ذهب مغاضباً. فظن أن لن نقدر عليه. فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم. وكذلك ننجي المؤمنين}.. وقصة يونس تأتي هنا في صورة إشارة سريعة مراعاة للتناسق في السياق، وتفصل في سورة الصافات. ولكن لا بد لنا من بعض التفصيل هنا لهذه الإشارة كي تكون مفهومة. لقد سمي ذا النون أي صاحب الحوت لأن الحوت التقمه ثم نبذه، وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه، فضاق بهم صدراً، وغادرهم مغاضباً، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم. ظاناً أن الله لن يضيق عليه الأرض، فهي فسيحة، والقرى كثيرة، والأقوام متعددون. وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين. ذلك معنى {فظن أن لن نقدر عليه} أي أن لن نضيق عليه. وقاده غضبه الجامح، وضيقه الخانق، إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها. حتى إذا كانت في اللجة ثقلت، وقال ربانها: إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق. فساهموا فجاء السهم على يونس، فألقوه أو ألقى هو بنفسه. فالتقمه الحوت، مضيقاً عليه أشد الضيق! فلما كان في الظلمات: ظلمة جوف الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل نادى: {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}. فاستجاب الله دعاءه، ونجاه من الغم الذي هو فيه. ولفظه الحوت على الساحل. ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات. فحسبنا هذا في هذا السياق. إن في هذه الحلقة من قصة يونس عليه السلام لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات. إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدراً بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضباً، ضيق الصدر، حرج النفس؛ فاوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبيه مضايقات المكذبين. لولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه. لما فرج الله عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا بتكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقاً. ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا. ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا. إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة. . وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب! إن طريق الدعوات ليس هيناً ليناً. واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب. ولا بد من إزالة هذا الركام. ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة. ولا بد من لمس جيمع المراكز الحساسة. ومن محاولة العثور على العصب الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلاً تاماً في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش أحياناً وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود! وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال.. إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهاباً وإياباً فتخطئ المحطة وأنت تدقق وتصوب. ثم إذا حركة عابرة من يدك. فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام! إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال. وأصحاب الدعوات لا بد ان يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق. ولمسة واحدة بعد الف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال! إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس.. إنه عمل مريح، قد يفثأ الغضب، ويهدئ الأعصاب.. ولكن أين هي الدعوة؟ وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين؟! إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية! فليضق صدره. ولكن ليكظم ويمض. وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون! إن الداعية أداة في يد القدرة. والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله. والهدى هدى الله. وإن في قصة ذي النون لدرساً لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه. وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها. وإن رحمة الله لذي النون واستجابة دعائه المنيب في الظلمات لبشرى للمؤمنين: {كذلك ننجي المؤمنين}.. ثم إشارة إلى قصة زكريا ويحيى عليهما السلام واستجابة الله لزكريا دعاه: {وزكريآ إذ نادى ربه. رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين. فاستجبنا له، ووهبنا له يحيى، وأصلحنا له زوجه. إنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ويدعوننا رغباً ورهباً، وكانوا لنا خاشعين}.. وقصة مولد يحيى سبقت مفصلة في سورة مريم وفي سورة آل عمران. وهي ترد هنا متناسقة مع السياق. فتبدأ بدعاء زكريا: {رب لا تذرني فرداً} بلا عقب يقوم على الهيكل: وكان زكريا قائماً على هيكل العبادة في بني إسرائيل قبل مولد عيسى عليه السلام ولا ينسى زكريا أن الله هو وارث العقيدة ووارث المال: {وأنت خير الوارثين} إنما هو يريد من ذريته من يحسن الخلافة بعده في أهله ودينه وماله.
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} هذا الشوط الأخير في السورة بعد عرض سنن الله الكونية، الشاهدة بوحدة الخالق؛ وسنن الله في إرسال الرسل بالدعوات الشاهدة بوحدة الأمة ووحدة العقيدة.. يعرض السياق فيه مشهداً للساعة وأشراطها، يتبين فيه مصير المشركين بالله ومصير الشركاء؛ ويتفرد الله ذو الجلال بالتصريف فيه والتدبير. ثم يقرر سنة الله في وراثة الأرض، ورحمة الله للعالمين المتمثلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وعندئذ يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينفض يده منهم، وأن يدعهم لمصيرهم، فيترك الحكم لله فيهم؛ ويستعين به على شركهم وتكذيبهم واستهزائهم، وانصرافهم إلى اللعب واللهو، ويوم الحساب قريب. {وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون. فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه، وإنا له كاتبون. وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون}.. إن أمة الرسل واحدة تقوم على عقيدة واحدة وملة واحدة، أساسها التوحيد الذي تشهد به نواميس الوجود؛ والذي دعت إليه الرسل منذ أولى الرسالات إلى أخراها دون تبديل ولا تغيير في هذا الأصل الكبير. إنما كانت التفصيلات والزيادات في مناهج الحياة القائمة على عقيدة التوحيد، بقدر استعداد كل أمة، وتطور كل جيل؛ وبقدر نمو مدارك البشرية ونمو تجاربها، واستعدادها لأنماط من التكاليف ومن التشريعات؛ وبقدر حاجاتها الجديدة التي نشأت من التجارب، ومن نمو الحياة ووسائلها وارتباطاتها جيلاً بعد جيل. ومع وحدة أمة الرسل، ووحدة القاعدة التي تقوم عليها الرسالات.. فقد تقطع أتباعها أمرهم بينهم، كأنما اقتطع كل منهم قطعة وذهب بها. وثار بينهم الجدل، وكثر بينهم الخلاف، وهاجت بينهم العداوة والبغضاء.. وقع ذلك بين اتباع الرسول الواحد حتى ليقتل بعضهم بعضاً باسم العقيدة. والعقيدة واحدة، وأمة الرسل كلها واحدة. لقد تقطعوا أمرهم بينهم في الدنيا. ولكنهم جميعاً سيرجعون إلى الله. في الآخرة: {كل إلينا راجعون} فالمرجع إليه وحده، وهو الذي يتولى حسابهم ويعلم ما كانوا عليه من هدى أو ضلال: {فمن يعمل الصالحات وهو مؤمن، فلا كفران لسعيه، وإنا له كاتبون}.. هذا هو قانون العمل والجزاء.. لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الأيمان.. وهو مكتوب عند الله لا يضيع منه شيء ولا يغيب. ولا بد من الأيمان لتكون للعمل الصالح قيمته، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده. ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته، بل لتثبت للإيمان حقيقته. إن الإيمان هو قاعدة الحياة، لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود، والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد، وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه، ولا بد من القاعدة ليقوم البناء. والعمل الصالح هو هذا البناء. فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته. والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير. والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر.. والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق. ومن ثم يقرن القرآن دائماً بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء. فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر. ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان. والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة، لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم، ولا موصول بناموس مطرد. وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود. وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح، لأنه وسيلة البناء في هذا الكون، ووسيلة الكمال الذي قدره الله لهذه الحياة. فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها، لا فلتة عابرة، ولا نزوة عارضة، ولا رمية بغير هدف، ولا اتجاهاً معزولاً عن اتجاه الكون وناموسه الكبير. والجزاء على العمل يتم في الآخرة حتى ولو قدم منه قسط في الدنيا. فالقرى التي هلكت بعذاب الاستئصال ستعود كذلك حتماً لتنال جزاءها الأخير، وعدم عودتها ممتنعة، فهي راجعة بكل تأكيد. {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون}.. إنما يفرد السياق هذه القرى بالذكر بعد أن قال: {كل إلينا راجعون} لأنه قد يخطر للذهن أن هلاكها في الدنيا كان نهاية أمرها، ونهاية حسابها وجزائها. فهو يؤكد رجعتها إلى الله، وينفي عدم الرجعة نفياً قاطعاً في صورة التحريم لوقوعه. وهو تعبير فيه شيء من الغرابة، مما جعل المفسرين يؤولونه فيقدرون أن {لا} زائدة. وأن المعنى هي نفي رجعة القرى إلى الحياة بعد إهلاكها. أو نفي رجوعهم عن غيهم إلى قيام الساعة. وكلاهما تأويل لا داعي له. وتفسير النص على ظاهره أولى، لأن له وجهه في السياق على النحو الذي ذكرنا. ثم يعرض مشهداً من مشاهد القيامة يبدؤه بالعلامة التي تدل على قرب الموعد. وهو فتح يأجوج ومأجوج: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق، فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا. يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا، بل كنا ظالمين. إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها، وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون. إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون. يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعداً علينا إنا كنا فاعلين}.. وقد قلنا من قبل عند الكلام على يأجوج ومأجوج في قصة ذي القرنين في سورة الكهف: اقتراب الوعد الحق الذي يقرنه السياق بفتح يأجوج مأجوج، ربما يكون قد وقع بانسياح التتار وتدفقهم شرقاً وغرباً، وتحطيم المماليك والعروش.. لأن القرآن قد قال منذ أيام الرسول صلى الله عليه السلام- {اقتربت الساعة} غير أن اقتراب الوعد الحق لا يحدد زماناً معيناً للساعة. فحساب الزمن في تقدير الله غيره في تقدير البشر {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} إنما المقصود هنا هو وصف ذلك اليوم حين يجيء، والتقديم له بصورة مصغرة من مشاهد الأرض، هي تدفق يأجوج ومأجوج من كل حدب في سرعة واضطراب. على طريقة القرآن الكريم في الاستعانة بمشاهدات البشر والترقي بهم من تصوراتهم الأرضية إلى المشاهد الأخروية. وفي المشهد المعروض هنا يبرز عنصر المفاجأة التي تبهت المفجوئين! {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا}.. لا تطرف من الهول الذين فوجئوا به. ويقدم في التعبير كلمة {شاخصة} لترسم المشهد وتبرزه! ثم يميل السياق عن حكاية حالهم إلى إبرازهم يتكلمون، وبذلك يحيي المشهد ويستحضره: {يا ويلنا! قد كنا في غفلة من هذا. بل كنا ظالمين}.. وهو تفجع المفجوء الذي تتكشف له الحقيقة المروعة بغتة؛ فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف، ويدعو بالويل والهلاك، ويعترف ويندم، ولكن بعد فوات الأوان! وحين يصدر هذا الاعتراف في ذهول المفاجأة يصدر الحكم القاطع الذي لا مرد له: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}.. وكأنما هم اللحظة في ساحة العرض، يردون جهنم هم وآلهتهم المدعاة؛ وكأنما هم يقذفون فيها قذفاً بلا رفق ولا أناة؛ وكأنما تحصب بهم حصباً كما تحصب بالنواة! وعندئذ يوجه إليهم البرهان على كذب ما يدعون لها من كونها آلهة. يوجه إليهم من هذا الواقع المشهود: {لو كان هؤلاء ما وردوها}.. وهو برهان وجداني ينتزع من هذا المشهد المعروض عليهم في الدنيا، وكأنما هو واقع في الآخرة.. ثم يستمر السياق على أنهم قد وردوا جهنم فعلاً، فيصف مقامهم فيها، ويصور حالهم هناك؛ وهي حال المكروب المذهوب بإدراكه من هول ما هو فيه: {وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير، وهم فيها لا يسمعون}. وندع هؤلاء لنجد المؤمنين في نجوة من هذا كله، قد سبقت لهم الحسنى من الله، وقدر لهم الفوز والنجاة: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون}.. ولفظة {حسيسها} من الألفاظ المصورة بجرسها لمعناها. فهو تنقل صوت النار وهي تسري وتحرق، وتحدث ذلك الصوت المفزع. وإنه لصوت يتفزع له الجلد ويقشعر. ولذلك نجي الذين سبقت لهم الحسنى من سماعه فضلاً على معاناته نجوا من الفزع الأكبر الذي يذهل المشركين. وعاشوا فيما تشتهي أنفسهم من أمن ونعيم. وتتولى الملائكة استقبالهم بالترحيب، ومصاحبتهم لتطمئن قلوبهم في جو الفزع المرهوب: {لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة. هذا يومكم الذي كنتم توعدون}.. ويختم المشهد بمنظر الكون الذي آل إليه. وهو يشارك في تصوير الهول الآخذ بزمام القلوب، وبزمام الكائنات كلها في ذلك اليوم العصيب: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}.. فإذا السماء مطوية كما يطوي خازن الصحائف صحائفه؛ وقد قضي الأمر، وانتهى العرض، وطوي الكون الذي كان يألفه الإنسان.. وإذا عالم جديد وكون جديد: {كما بدأنا أول خلق نعيده}.. {وعداً علينا إنا كنا فاعلين}.. ومن هذا المشهد المصور لنهاية الكون والأحياء في الآخرة يعود السياق لبيان سنة الله في وراثة الأرض، وصيرورتها للصالحين من عبادة في الحياة. وبين المشهدين مناسبة وارتباط: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.. والزبور إما أن يكون كتاباً بعينه هو الذي أوتيه داود عليه السلام. ويكون الذكر إذن هو التوراة التي سبقت الزبور. وإما أن يكون وصفاً لكل كتاب بمعنى قطعة من الكتاب الأصيل الذي هو الذكر وهو اللوح المحفوظ، الذي يمثل المنهج الكلي، والمرجع الكامل، لكل نواميس الله في الوجود. وعلى أية حال فالمقصود بقوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر...} هو بيان سنة الله المقررة في وراثة الأرض: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.. فما هي هذه الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟ لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله. ولقد وضع الله للبشر منهجاً كاملاً متكاملاً للعمل على وفقه في هذه الأرض. منهجاً يقوم على الإيمان والعمل الصالح. وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج، وشرع له القوانين التي تقيمه وتحرسه؛ وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته. في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود. ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان، ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة. فلا ينتكس حيواناً في وسط الحضارة المادية الزاهرة؛ ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة. وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة. وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة. وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالاً مادياً.. ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق. والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح. فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم. وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ. ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح. وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان. وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله، وتجري سنته: {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.. فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون.. وفي النهاية يجيء إيقاع الختام في السورة مشابهاً لإيقاع الافتتاح! {إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. قل: إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون؟ فإن تولوا فقل: آذنتكم على سوآء، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون. إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.. قال: رب احكم بالحق، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}.. {إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين}.. إن في هذا القرآن وما يكشفه من سنن في الكون والحياة. ومن مصائر الناس في الدنيا والآخرة. ومن قواعد العمل والجزاء.. إن في هذا لبلاغاً وكفاية للمستعدين لاستقبال هدى الله. ويسميهم {عابدين} لأن العابد خاشع القلب طائع متهيئ للتلقي والتدبر والانتفاع. ولقد أرسل الله رسوله رحمة للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى، وما يهتدي إلا أولئك المتهيئون المستعدون. وإن كانت الرحمة تتحقق للمؤمنين ولغير المؤمنين.. إن المنهج الذي جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم منهج يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة. ولقد جاءت هذه الرسالة للبشرية حينما بلغت سن الرشد العقلي: جاءت كتاباً مفتوحاً للعقول في مقبل الأجيال، شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل، مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير. ولقد وضع هذا الكتاب أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة. وترك للبشرية أن تستنبط الأحكام الجزئية التي تحتاج إليها ارتباطات حياتها النامية المتجددة، واستنباط وسائل تنفيذها كذلك بحسب ظروف الحياة وملابساتها، دون اصطدام بأصول المنهج الدائم. وكفل للعقل البشري حرية العمل، بكفالة حقه في التفكير، وبكفالة مجتمع يسمح لهذا العقل بالتفكير. ثم ترك له الحرية في دائرة الأصول المنهجية التي وضعها لحياة البشر، كيما تنمو وترقى وتصل إلى الكمال المقدر لحياة الناس في هذه الأرض. ولقد دلت تجارب البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج كان وما يزال سابقاً لخطوات البشرية في عمومه. قابلاً لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نمواً مطرداً. وهو يقودها دائماً، ولا يتخلف عنها، ولا يقعد بها، ولا يشدها إلى الخلف، لأنه سابق دائماً على خطواتها متسع دائماً لكامل خطواتها. وهو في تلبيته لرغبة البشرية في النمو والتقدم لا يكبت طاقاتها في صورة من صور الكبت الفردي أو الجماعي، ولا يحرمها الاستمتاع بثمرات جهدها وطيبات الحياة التي تحققها. وقيمة هذا المنهج أنه متوازن متناسق. لا يعذب الجسد ليسمو بالروح، ولا يهمل الروح ليستمتع الجسد. ولا يقيد طاقات الفرد ورغائبه الفطرية السليمة ليحقق مصلحة الجماعة أو الدولة. ولا يطلق للفرد نزواته وشهواته الطاغية المنحرفة لتؤذي حياة الجماعة، أو تسخرها لإمتاع فرد أو أفراد. وكافة التكاليف التي يضعها ذلك المنهج على كاهل الإنسان ملحوظ فيها أنها في حدود طاقته، ولمصلحته؛ وقد زود بالاستعدادات والمقدرات التي تعينه على أداء تلك التكاليف، وتجعلها محببة لديه مهما لقي من أجلها الآلام أحياناً لأنها تلبي رغيبة من رغائبه، أو تصرف طاقة من طاقاته. ولقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده والمبادئ التي جاء بها كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الواقعية والروحية من مسافة. ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ. فتزول غرابتها في حسها، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عنوانات أخرى. لقد جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجنسية الجغرافية. لتلتقي في عقيدة واحدة ونظام اجتماعي واحد.. وكان هذا غريباً على ضمير البشرية وتفكيرها وواقعها يومذاك. والأشراف يعدون أنفسهم من طينة غير طينة العبيد.. ولكن ها هي ذي البشرية في خلال نيف وثلاثة عشر قرناً تحاول أن تقفو خطى الإسلام، فتتعثر في الطريق، لأنها لا تهتدي بنور الإسلام الكامل. ولكنها تصل إلى شيء من ذلك المنهج ولو في الدعاوى والأقوال وإن كانت ما تزال أمم في أوربا وأمريكا تتمسك بالعنصرية البغيضة التي حاربها الإسلام منذ نيف وثلاث مائة وألف عام. ولقد جاء الإسلام ليسوي بين جميع الناس أمام القضاء والقانون. في الوقت الذي كانت البشرية تفرق الناس طبقات، وتجعل لكل طبقة قانوناً. بل تجعل إرادة السيد هي القانون في عهدي الرق والإقطاع.. فكان غريباً على ضمير البشرية يومذاك أن ينادي ذلك المنهج السابق المتقدم بمبدأ المساواة المطلقة أمام القضاء. . ولكن ها هي ذي شيئاً فشيئاً تحاول أن تصل ولو نظرياً إلى شيء مما طبقة الإسلام عملياً منذ نيف وثلاث مائة وألف عام. وغير هذا وذلك كثير يشهد بأن الرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية وأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما أرسل رحمة للعالمين. من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء. فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير شاعرة؛ وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة، لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام. وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها. وهي قلقة حائرة، شاردة في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفاف الأرواح والقلوب.. وبعد إبراز معنى الرحمة وتقريره يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يواجه المكذبين المستهزئين، بخلاصة رسالته التي تنبع منها الرحمة للعالمين: {قل إنما يوحى إليَّ أنَّما إلهكم إله واحد. فهل أنتم مسلمون؟}. فهذا هو عنصر الرحمة الأصيل في تلك الرسالة. عنصر التوحيد المطلق الذي ينقذ البشرية من أوهام الجاهلية، ومن أثقال الوثنية، ومن ضغط الوهم والخرافة. والذي يقيم الحياة على قاعدتها الركينة، فيربطها بالوجود كله، وفق نواميس واضحة وسنن ثابتة، لا وفق أهواء ونزوات وشهوات. والذي يكفل لكل إنسان أن يقف مرفوع الرأس فلا تنحني الرؤوس إلا لله الواحد القهار. هذا هو طريق الرحمة.. {فهل أنتم مسلمون؟}. وهذا هو السؤال الواحد الذي يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقيه على المكذبين المستهزئين. {فإن تولوا فقل: آذنتكم على سواء}.. أي كشفت لكم ما عندي فأنا وأنتم على علم سواء. والإيذان يكون في الحرب لإنهاء فترة السلم، وإعلام الفريق الآخر أنها حرب لا سلام.. أما هنا والسورة مكية ولم يكن القتال قد فرض بعد فالمقصود هو أن يعلنهم بأنه قد نفض يده منهم، وتركهم عالمين بمصيرهم، وأنذرهم عاقبة أمرهم. فلم يعد لهم بعد ذلك عذر، فليذوقوا وبال أمرهم وهم عالمون.. {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون}.. آذنتكم على سواء. ولست أدري متى يحل بكم ما توعدون. فهو غيب من غيب الله. لا يعلمه إلا الله. وهو وحده يعلم متى يأخذكم بعذابه في الدنيا أو في الآخرة سواء. وهو يعلم سركم وجهركم، فما يخفى عليه منكم خافية: {إنه يعلم الجهر من القول، ويعلم ما تكتمون}.. فأمركم كله مكشوف له، وحين يعذبكم يعذبكم بما يعلم من أمركم ظاهره وخافيه. وإذا أخر عنكم العذاب فحكمة تأخيره عند الله: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}.
|